توطئة
تشير الدراسات الحديثة في علم اللغة الى أن اللغة المنطوقة والمسموعة المتداولة في الحياة اليومية لأي مجتمع انساني تختلف الى هذا الحد أو ذاك عن الكتابة باللغة ذاتها , لأن النطق الشفاهي الحي ظاهرة صوتية أما الكتابة فأنها وسيلة تقريبية متفاوتة الد قة للتعبير عن تلك الظاهرة . ولاشك أن لغة التخاطب أقدم من الكتابة فقد استخدم الأنسان اللغة آلاف السنين قبل أن يهتدي إلى أبتكار أول شكل من أشكال الكتابة وهي التعبير عن الكلمات بالصور، ثم بالمقاطع وأخيرا" بالحروف الأبجدية وربما كان الدافع الأساسي للتدوين هو التعبير عن الذات والمتطلبات اللاحقة للدين والدولة .
ان لغة التدوين تتبلور نتيجة لتطور المجتمع ، ولقد تعرضت اللغة الكردية الى موجات عاتية من اللغات المجاورة ولكنها استطاعت – برغم ذلك – أن تحافظ على وجودها واستقلاليتها . وتختلف آراء علماء اللغة حول بداية الكتابة باللغة الكردية حيث يعتقد البعض منهم بأن ( الآ فستا ) وهو الكتاب المقدس للديانة الزرد شتية قد دون باللغة الميدية في القرن السادس قبل الميلاد وأن اللغة الكردية قد ا نبثقت عن هذه اللغة الأخيرة . أي أن الكتابة الكردية في أقدم صورها ترجع الى ذلك التأريخ .
لقد حاول العديد من الكتاب الكرد أثبات وجود أبجدية كردية قديمة و منهم المرحوم ( كيو موكرياني ) الذي نشر في اوائل الستينات صورة أبجدية قال عنها أنها الأبجدية الكردية القديمة وأن تأريخها يعود الى سنة( 2800 ق.م) وهذه المحاولات لم تتوقف لحد الآن، فقد نشر الكاتب الكردي المعروف الاستاذ (محمد الملا عبدالكريم) مؤخرا" صورة أبجدية قديمة نقلا عن كتاب (( شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام )) لأبن وحشية النبطي الكلداني( 241 هـ ) ولقد دون ابن وحشية مقابل كل حرف من حروف هذه الأبجدية ما يقابله من الحروف العربية. ولقد لاحظنا وجود حروف في هذه الأبجدية الكردية المزعومة مثل ( ذ, ض, ط, ظ, ) وهي حروف لأصوات عربية ولاتوجد مثل هذه الأصوات في اللغة الكرديةكما إن الأبجدية الواردة في الكتاب المذكور لم تتضمن عدة أصوات ( حروف ) كردية مثل (ز) , ( ك ) , ( ر ) , ( لَ ) , ( ؤ ) , ( وو ) .
ومهما يكن من أمر فأن الرأي الغالب هو أن بداية الكتابة الكردية تتمثل في نتاجات باباطاهر الهمداني ( 935 – 1010 ) م وتبعه شعراء كرد آخرون في الكتابة بلغتهم القومية لعل ابرزهم علي حريري ، فقي طيران ،ملاي جزيري وصولا" الى الشاعر الخالد أحمدي خاني ومن ثم نالي وحاجي قادري كويي حيث تتجلى في قصائدهم أصالة وثراء اللغة الكردية .
ويلاحظ أن الشعراء الكرد كانوا أسبق من غيرهم في التعبير عن خلجات نفوسهم وتطلعات أمتهم باللغة الأم.
إن من يزعم بأن الكتابة الكردية ظهرت متأخرة ربما لايعرف أو بتعبير أدق لا يدرك بأن الكتابة الكردية لم تبدأ من نقطة الصفر، بل بقصائد شعرية رائعة ولغة متطورة ومع ذلك فأن الكتابة الأدبية الكردية أسبق من مثيلاتها في معظم اللغات الهندو – أوروبية وهي المجموعة التي تنتمي اليها اللغة الكردية .
فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن اوائل الآثار الأدبية الروسية قد ظهرت في القرن الثاني عشر وهي مقاطع نثرية بسيطة الشكل والمضمون كتبت باللغة الروسية القديمة التي تحتاج الى ترجمتها الى اللغة الروسية المعاصرة لتكون مفهومة لدى القراء الروس اليوم ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة الى اللغات السلافية الأخرى ومعظم اللغات الأوروبية، في حين أن قصائد بابا طاهر الهمداني مفهومة لدى أي قاريء كردي مثقف بعد مرور حوالي ألف عام على كتابتها .
والحق إن ما تأخر ظهوره هو ما نسميه بالحروف الهجائية أو الأبجدية الكردية وليست الكتابة الكردية ذاتها .
2-تطور الأبجدية الكردية
لقد كانت الكتابة الكردية – منذ أن شرع الشعراء الكرد بالكتابة بلغتهم القومية – و لقرون عديدة بالأبجدية المبنية على الحروف العريبة وبالخط الفارسي ,حيث كتب بهذه الأبجدية معظم التراث الكردي( من شعر ونثر ومؤلفات تأريخية و د ينية و اثنوغرافية ولغوية) منذ بدأ التدوين الكردى والى العشرينات من القرن العشرين وحتى الجريدة الكردية الأولى ( كردستان ) القاهرية كانت تصدر بهذه الأبجدية مع أضافة الحرف ( ظ ) الذى لا يوجد في العربية ولا في الفارسية .
ويعود الفضل في تطوير هذه الأبجدية الى الأدباء والعلماء الكرد وفي مقدمتهم العلامة توفيق وهبي ( 1891 – 1984 ) الذي بذل حهودا" مضنية طوال العشرينات من القرن الماضى لتثبيت الأصوات الكردية ووضع إشارات ورموز خاصة للأصوات التي تفتقر اليها الأبجدية العربية ، ومع أن توفيق وهبي لم يتسن له – كما يبدو – استخدام الآلات الخاصة بضبط الأصوات حسب المخارج الصوتية الا أن النتائج التي توصل اليها جاءت متطابقة الى حد كبير مع الأبحاث العلمية اللاحقة لتثبيت وضبط الأصوات كما ان عدد الحروف يكاد يتطابق في الحالتين ، وهذه الأبجدية هي السائدة اليوم في كردستان الجنوبية والشرقية على الرغم من وجود صعوبات املائية عديدة فيها لم تحسم لحد الأن..
أما ذلك الجزء الصغير من الشعب الكردي الذي يعيش على هامش حدود كردستان الشمالية الشرقية منذ أقدم العصور والذي أخذ يتزايد بأضطراد طوال الفرون الثلاثة الأخيرة بسبب الهجرة من أجزاء كردستان الأخرى وبخاصة كردستان تركيا ، فأن النخبة المثقفة ( التى ترعرعت وتطورت فى فى هذا الجزء فى ظل النظام الأشتراكى) حكاية طويلة مع الأبجدية الكردية .
ولا شك ان الأهمية الستراتيجية البالغة لكردستان من الناحيتين العسكرية والسياسية ووقوعها على مقربة من حدود الأمبراطورية الروسية، دفعت النظام القيصري الى الأهتمام بكردستان وشعبها حيث قامت أكاديمية العلوم الروسية ومعهد الاستشراق بدور بارز في هذا المجال. و بمضي الزمن أصبحت المكتبة الروسية زاخرة بالكتب والمخطوطات والدراسات والأبحاث والتقارير حول الشعب الكردي ووطنه واستمر هذا الأهتمام طيلة العهد السوفيتي بين مد وجزر , الى قيام ثورة 14 تموز في العراق عندما شهدت الدراسات الكردية في الاتحاد السوفيتي ( السابق ) انتعاشا كبيرا لم يسبق له مثيل وتشير الأحصائيات الى ان مجموع ( الدراسات الكردية ) – ونعني بالدراسات هنا مجازا" , كل ما نشر عن الكرد من مقالات وأبحاث وكتب .. الخ - المنشورة في بلدان العالم المختلفة وبضمنها العراق وايران وسوريا قد بلغ لغاية سنة 1963( وهى سنة صدور البيبلوغرافية الموسعة للدراسات الكردية )( 2690 ) نتاجا" بلغ نصيب روسيا القيصرية ومن ثم الأتحاد السوفيتي من هذه الدراسات( 1634 ) نتاجا" أي حوالي ثلثي ما كتب حول الكرد في العالم كله(1) . لذا فإن اولى المحاولات لوضع أبجدية خاصة باللغة الكردية تمت في ارمينيا – التي كانت تابعة لروسيا القيصرية وتعيش فيها اكبر مجموعة كردية في ما وراء القفقاس – وبإستخدام الحروف الأرمنية وذلك في منتصف القرن التاسع عشر . ولقد اخفقت هذه الابجدية لأختلاف الاصوات الكردية عن الاصوات الارمنية . حيث ادرك المستشرق الروسي البارز بيوتر ليرخ (والذى يعد احد مؤسسى الكردولوجيا فى روسيا) ذلك (2) فقام بمحاولة لوضع ابجدية لاتينية للغة الكردية ولكن محاولته لم تلق النجاح , ليس لأنه كان أجنبيا" يصعب عليه ضبط وتثبيت الاصوات الكردية , بل لأن النظام القيصري لم يكن يبدي أهتماما" كبيرا" بكرد الداخل, بقدر أه تمامه بكرد الخارج . فقبيل الحرب العالمية الأولى كانت ثمة عدد من المدارس الروسية في المناطق الكردية في أرمينيا ولكن هذه المدارس أغلقت ابوابها خلال سنوات الحرب و ابان ثورة اكتوبر 1917 وسنوات التدخل العسكري الأمبريالى .
وبعد انتهاء التدخل الخارجي والحرب الاهلية قام البلاشقة ابتداء" من عام 1920 بإنشاء عدة مدارس كردية كانت لغة التدريس فيها هي اللغة الكردية لأول مرة في التأريخ الكردي الحديث . أما الأبجدية المستخدمة في التدريس فكانت الأبجدية الكردية المبنية على الحروف الارمنية والتي قام بوضعها لغوي أرمني اسمه آكوب غازريان الملقب بـ ( لازو ) . كانت هذه المدارس مقتصرة في بداية الامر على المناطق الكردية في ارمينيا , ثم أنشأت مدارس كردية اخرى في كل من جورجيا واذربيجان في السنوات اللاحقة , وأول كتاب لتعليم القراءة والكتابة بهذه الابجدي ة كان يحمل عنوانا" شاعريا" هو ( الشمس ) . لم تكن هذه الأبجدية ايضا و كسابقاتها تنسجم مع خصائص ومميزات اللغة الكردية ولا تعبر بشكل صحيح عن الأصوات الكردية وتخلق صعوبات جمة عند استخدامها في التدريس . وحين ضج المعلمون بالشكوى ظهرت في صحيفة (( فجر الشرق )) الصادرة في تفليس عدة مقالات تدعو الى إيجاد أبجدية لاتينية بديلة تتفق مع خصائص اللغة الكردية وتسهل عملية تدريسها) (3).